سورة الدخان - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الدخان)


        


{فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)}
قوله تعالى: {فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ} أي لكفرهم. {وَما كانُوا مُنْظَرِينَ}. أي مؤخرين بالغرق. وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض، أي عمت مصيبته الأشياء حتى بكته السماء والأرض والريح والبرق، وبكته الليالي الشاتيات. قال الشاعر:
فالريح تبكي شجوها *** والبرق يلمع في الغمامه
وقال آخر:
والشمس طالعة ليست بكاسفة *** تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقالت الخارجية:
أيا شجر الخابور مالك مورقا *** كأنك لم تجزع على ابن طريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه. والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد.
وقيل: في الكلام إضمار، أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة، كقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] بل سروا بهلاكهم، قاله الحسن.
وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان باب ينزل منه رزقه وباب يدخل منه كلامه وعمله فإذا مات فقداه فبكيا عليه- ثم تلا- {فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ}». يعني أنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم لأجله، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فقد ذلك.
وقال مجاهد: إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحا. قال أبو يحيى: فعجبت من قوله فقال: أتعجب! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل!.
وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما: إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء. وتقدير الآية على هذا: فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض. وهو معنى قول سعيد بن جبير.
وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه: أحدها أنه كالمعروف من بكاء الحيوان. ويشبه أن يكون قول مجاهد.
وقال شريح الحضرمي قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة-قيل: من هم يا رسول الله؟ قال- هم الذين إذا فسد الناس صلحوا- ثم قال- ألا لا غربة على مؤمن وما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض- ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ}- ثم قال- ألا إنهما لا يبكيان على الكافر». قلت: وذكر أبو نعيم محمد بن معمر قال: حدثنا أبو شعيب الحراني قال حدثنا يحيى بن عبد الله قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني عطاء الخراساني قال: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت.
وقيل: بكاؤهما حمرة أطرافهما، قاله علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- وعطاء والسدي والترمذي محمد ابن علي وحكاه عن الحسن. قال السدي: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكت عليه السماء، وبكاؤها حمرتها.
وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال: لما قتل الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر. قال يزيد: واحمرارها بكاؤها.
وقال محمد بن سيرين: أخبرونا أن الحمرة التي تكون مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما.
وقال سليمان القاضي: مطرنا دما يوم قتل الحسين. قلت: روى الدارقطني من حديث مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشفق الحمرة». وعن عبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالا: الشفق شفقان، الحمرة والبياض، فإذا غابت الحمرة حلت الصلاة. وعن أبي هريرة قال: الشفق الحمرة. وهذا يرد ما حكاه ابن سيرين. وقد تقدم في {سبحان} عن قرة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكرياء والحسين بن علي، وحمرتها بكاؤها.
وقال محمد بن علي الترمذي: البكاء إدرار الشيء فإذا أدرت العين بمائها قيل بكت، وإذا أدرت السماء بحمرتها قيل بكت، وإذا أدرت الأرض بغبرتها قيل بكت، لان المؤمن نور ومعه نور الله، فالأرض مضيئة بنوره وإن غاب عن عينيك، فإن فقدت نور المؤمن اغبرت فدرت باغبرارها، لأنها كانت غبراء بخطايا أهل الشرك، وإنما صارت مضيئة بنور المؤمن، فإذا قبض المؤمن منها درت بغبرتها.
وقال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة أضاء كل شي، فلما كان اليوم الذي قبض فيه أظلم كل شي، وإنا لفي دفنه ما نفضنا الأيدي منه حتى أنكرنا قلوبنا. وأما بكاء السماء فحمرتها كما قال الحسن.
وقال نصر بن عاصم: إن أول الآيات حمرة تظهر، وإنما ذلك لدنو الساعة، فتدر بالبكاء لخلائها من أنوار المؤمنين.
وقيل: بكاؤها أمارة تظهر منها تدل على أسف وحزن. قلت: والقول الأول أظهر، إذ لا استحالة في ذلك. وإذا كانت السموات والأرض تسبح وتسمع وتتكلم- كما بيناه في سبحان ومريم وحم فصلت- فكذلك تبكي، مع ما جاء من الخبر في ذلك. والله أعلم بصواب هذه الأقوال.


{وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)}
يعني ما كانت القبط تفعل بهم بأمر فرعون، من قتل الأبناء واستخدام النساء، واستعبادهم إياهم وتكلفهم الأعمال الشاقة. {مِنْ فِرْعَوْنَ} بدل من {الْعَذابِ الْمُهِينِ} فلا تتعلق {من} بقوله: {مِنَ الْعَذابِ} لأنه قد وصف، وهو لا يعمل بعد الوصف عمل الفعل.
وقيل: أي أنجيناهم من العذاب ومن فرعون. {إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ} أي جبارا من المشركين. وليس هذا علو مدح بل هو علو في الإسراف، كقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4].
وقيل: هذا العلو هو الترفع عن عبادة الله.


{وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32)}
قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ} يعني بني إسرائيل. {عَلى عِلْمٍ} أي على علم منا بهم لكثرة الأنبياء منهم. {عَلَى الْعالَمِينَ} أي عالمي زمانهم، بدليل قوله لهذه الامة: {
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وهذا قول قتادة وغيره. وقيل على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم، حكاه ابن عيسى والزمخشري وغيرهما. ويكون قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} أي بعد بني إسرائيل. والله أعلم.
وقيل: يرجع هذا الاختيار إلى تخليصهم من الغرق وإيراثهم الأرض بعد فرعون.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10